صدر بيان من سماحة المرجع الديني الاعلى سماحة ايه الله العظمى الشيخ محمد اليعقوبي دام ظلة الوارف) المنشور على موقع سماحتة )
*******************************************
بسم الله الرحمن الرحيم
إجزاء الوقوف في عرفة على طبق ما يحكم به قاضي الحرمين الشريفين
الظاهر من سيرة الأئمة المعصومين من أهل البيت (سلام الله عليهم) أنهم كانوا يقفون على عرفات ويؤدون مناسك الحج في المواعيد التي يحكم بها قضاة الدولة الإسلامية التي ترعى الحرمين الشريفين وإن لم يكن متطابقاً مع الواقع الذي يفتون به.
وأدّبوا شيعتهم على ذلك من دون الحاجة إلى الوقوف الاضطراري في اليوم المطابق للواقع، لذا خلت الروايات الشريفة -على كثرتها وتعرّضها لأدقّ التفاصيل في مسائل الحج وبلوغ عددها الآلاف– من مسألة تعلِّمُ أتباعهم هذا الاحتياط.
فإن قُلتَ: إن الأئمة (سلام الله عليهم) قد بيّنوا الوقوف الاختياري في زمنه المحدد والوقوف الاضطراري في غير زمنه فهذا البيان العام يغني عن التعرض لحكم الحجاج في هذه المسألة خاصة.
قُلتُ: هذا البيان العام غير كافٍ كما هو واضح لأهمية المسألة ولما ورد من أن (الحج عرفة).
ويبدو ان المسألة بدرجة من الوضوح لدى أتباع أهل البيت (سلام الله عليهم) بحيث لم يصدر سؤال من واحدٍ منهم عن حكم هذه الحالة مع أهميتها.
فإن قلت: لعله لم يكن في ذلك الزمان خلاف حول رؤية الهلال وكان المسلمون متفقين على أوائل الشهور، فلا يوجد موضوع لهذه المسألة أصلاً.
قلت: الأمر عكس ذلك فقد تضمنت الروايات ما يشير إلى وجود مثل هذا الخلاف ومنها ما روي عن خلاد بن عمارة بسند صحيح قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): دخلت على أبي العباس (السفاح) في يوم شك وأنا اعلم انه من شهر رمضان وهو يتغدى فقال: يا أبا عبد الله ليس هذا من أيامك.قلت: لم يا أمير المؤمنين؟ ما صومي إلا بصومك ولا إفطاري إلا بإفطارك، فقال: قال: ادنُ قال: فدنوت فأكلت وأنا والله اعلم انه من شهر رمضان) (أبواب ما يمسك عنه الصائم وقت الإمساك/الباب57ح6). وأجاب الإمام عليه السلام في تفسير ذلك عندما استغرب احدهم فعل الإمام عليه السلام فقال: (أي والله افطر يوماً من شهر رمضان أحب إلي من أن يضرب عنقي) (الحديث4 من نفس الباب).
وروي عن أبي الجارود قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) إنا شككنا سنة في عام من تلك الأعوام في الأضحى، فلما دخلت على أبي جعفر (عليه السلام) وكان بعض أصحابنا يضحي، فقال: الفطر يوم يفطر الناس والأضحى يوم يضحي الناس والصوم يوم يصوم الناس)() (أبواب ما يمسك الصائم، باب 57 ح7).
لكن بعض أساتذتنا (دام ظله الشريف) لم يأخذ بهذه السيرة وعللّ ذلك باختلاف الطريقة المتبعة لثبوت الهلال لدى السلطات بين الأمس واليوم ((فالولاة والقضاة الرسميون في زمن المعصومين (عليهم السلام) كانوا يتشددون في أمر الهلال ومن الشواهد على ذلك أن سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب –الذي كان يعدّ من كبار فقهائهم في المدينة- ذهب بجمع شهدوا برؤية الهلال إلى ابراهيم بن هشام المخزومي أمير الحاج في عام 105 فلم يقبلهم فوقف سالم بعرفة بوقت شهادتهم ثم دفع فلما كان اليوم الثاني وقف مع الناس وأما في العصر العباسي فقد جرى الأمر فيه على نفس المنوال ولا سيما بعد أن عهدوا بمنصب القضاء إلى أبي يوسف ابرز تلامذة أبي حنيفة وحظي بتأييد الخليفة فيما يتعلق بشؤون التشريع وكان مذهبه في ثبوت الهلال انه متى ما كانت السماء صحواً فلا تقبل الشهادة برؤيته الا من جماعة يقع العلم للقاضي بشهادتهم، وقدّر عددهم بعدد القسامة خمسين رجلاً.
بل كانوا يتشددون فيه وربما أدى إلى التأخير في أول الشهر عن وقته لشرعي كما يظهر من خبر لقاء الإمام الصادق (عليه السلام) بأبي العباس السفاح.
وكيف كان فلا شاهد على ما ادعى من مخالفة الوقوف الرسمي في عرفات والمزدلفة لما تقتضيه الموازين الشرعية في أكثر السنوات، بل ان عدم ورود ذكر لهذه المخالفة في شيء من الروايات صحيحها وسقيمها مع انها متعلقة بأهم مناسك الحج أعني الوقوفين دليل على خلاف ذلك في حين ان الروايات اشتملت على أدق تفاصيل الحج ومسائله النادرة.
مع ما عرِف من حال الشيعة من صعوبة انقيادهم لأوامر السلطة وإتباع غيرهم في الأمور الشرعية حتى فيما ورد فيه الترخيص كالصلاة خلفهم، فلماذا لم يقع هذا منهم مورداً للسؤال ولا سيما في عصر الصادق (عليه السلام)().
وهذا الكلام لطيف ويدل على تتبع وسعة إطلاع وحسن استثمار للشواهد إلا انه لا يمكن الاعتماد عليه لجملة من الأمور:-
1- إن افتراض تشدد السلطات يومئذ في أمر الهلال وتأخرهم عن الوقت الشرعي إذا أريد منه إظهار مراعاتهم لحرمات الدين فهذا غير صحيح وان كنّا لا نؤمن به لان سلوكهم لا يدلّ على الالتزام بالدين، ومع ذلك فأن تأخرهم عن الوقت الشرعي لا يحل المشكلة بل يؤكدها لان في التقدم والتأخر مخالفة للحساب الشرعي الواقعي فلو كان الإمام (ع) يؤدي الوقوف الاختياري في الوقت الشرعي المتقدم لذكرته الروايات.
2- ان رواية الإمام الصادق (ع) مع أبي العباس السفاح يمكن أن تفهم على عكس ما قاله السيد الأستاذ (دام ظله الشريف) لان اليوم المشكوك الذي ذكرته الرواية هو المردد بين الثلاثين من رمضان والأول من شوال لعدة قرائن.
(احدها) انه لم يكن معتاداً زيارة بلاط الخليفة في الأول من رمضان وإنما في الأول من شوال حيث يلزم كبار الشخصيات في المجتمع بالسلام على الخليفة.
(ثانيها) ان القرينة التي فهم منها الترديد بين الثلاثين من شعبان والأول من رمضان ورود لفظ (يوم شك) وهو لا يدل على ذلك لانه لم يرد معرفاً بلام العهد أي ((يوم الشك)) وإنما ورد التنكير فيفيد الإطلاق إضافة إلى عدم ثبوت هذا المصطلح عندهم يومئذ.
(ثالثها) ان الدولة لم تكن تهتم باليوم الأول من رمضان بقدر اهتمامها بيوم العيد الذي تقيم فيه ما يظهر هيبتها وسطوتها وجبروتها فالرواية تناسب يوم العيد لا يوم الأول من رمضان.
وتوجد رواية ذكرها الصدوق (رحمه الله) في الخصال تصلح شاهدا على ما نقول فقد روى عن عبد الرحمن بن ابي عبد الله قال: (قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): اغتسل في ليلة أربعة وعشرين، وما عليك أن تعمل في الليلتين جميعاً) () فإن استحباب الغسل ليلة أربعة وعشرين لأدراك استحبابه ليلة ثلاثة وعشرين المظنون انها ليلة القدر بدلالة الذيل وهذا تلميح من الإمام (عليه السلام) إلى ان الحساب الواقعي متأخر ليلة عن الحساب المعلن.
3- إننا لو أغمضنا النظر عن ذلك فإن مختاره (دام ظله الشريف) من وجوب الإتيان بالوقوف في الوقت الشرعي لعرفة لا يحل الإشكال لأن البناء على وجوب الالتزام بالأوقات الصحيحة لرؤية الهلال يعني تعطيل فريضة الحج اذ من النادر تطابق أوائل الشهور عندهم مع ما تقتضيه الموازين الشرعية، وتعطيل فريضة الحج محرم فلا بد من الاجتزاء بالوقوف معهم.
إن قلت: انه يمكن تحقيق ذلك من خلال الوقوف الاضطراري ولو بالتظاهر بالبحث عن شيء مفقود ونحوه وهذا المقدار كافٍ لتصحيح الحج.
قلت: إن تيسر هذا لأفراد فانه لا يتيسر لكل أتباع أهل البيت عليهم السلام الذين يصل عدد الحجاج منهم في السنين المتأخرة إلى حوالي مئتي ألف أو أكثر فإذا كان الحكم هو هذا فانه مخالف للتقية ولا يمكن تطبيقه بلحاظ المجموع كما هو المفروض إذ عليهم جميعاً أن يلتزموا به ولا يغني إمكانه لعدد محدود.
ملخص من كتاب (بحوث استدلالية في مسائل خلافية) لسماحة الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله الشريف) المجلد الأول، الصفحات 121-125